لا يجوزُ تسخيفُ الانتصارِ فنُنْكِرُ على الجيشِ إنجازَه، ولا يجوزُ تسخيفُ التحريرِ فنجعلُ كلَّ أيّامِ السنةِ أعيادَ تحرير. ولا يجوزُ توظيفُ الانتصارِ والتحريرِ في تحقيقٍ عبثيٍّ معلومِ النتائجِ ومجهولِ الارتدادات.
ولا يجوزُ استغلالُ أهلِ العسكرِ المخطوفين، وأبناؤهم أصبحوا شهداءَ، بعدما اسْتُغِلّوا طَوالَ ثلاثِ سنواتٍ، وأبناؤهم كانوا مخطوفين. كلُّ انتصارٍ يُحرِزُه فريقٌ ولا يَضعُه في جُعبةِ الدولةِ هو فانٍ. وكلُّ انتصارٍ تُحقِّقه الدولةُ ولا تُسجِّله في خِدمةِ الوِحدةِ الوطنيّةِ هو عابر. وكل انتصار يُتمِّمُه الإنسانُ ولا يوظِّفه في مشروعِ المصالحةِ هو زائل.
إذا كان أمينُ عام حزبِ الله قَوّضَ دورَ حزبِه في جرودِ عرسال بتسويةٍ مُريبةٍ مع الإرهابيّين، لا نَتمنّى لرئيسِ الجمهوريّةِ أنْ يُنغِّصَ سُمعةَ الجيشِ اللبنانيِّ بالتحقيقِ مع قيادتِه السابقة، وهي قيادةٌ حَمَت لبنانَ نحو عشرِ سنواتٍ (2008 / 2017)، وانتصَرت على الإرهابِ، وبخاصّةٍ في زمنِ الشغورِ الرئاسي.
هل أنَّ الملاحقةَ محصورةٌ بالمسؤولين المسيحيّين للنيل من هيبة آخِر المناصبِ المارونيّةِ العليا في الدولة؟ حملةٌ على حاكمِ مصرفِ لبنان، تهويلٌ على قائدِ الجيشِ السابقِ العماد قهوجي، وتشويهُ سُمعةِ رئيسِ جمهوريّةٍ سابق.
الكمالُ لله. أما النواقصُ فحالاتٌ يوميّةٌ في بلدٍ كلبنان يعيش على الفيتو المتبادَل، وإلا فالاقتتال. منذ انتخابِه، كم مرةً شَعَر الرئيسُ عون بانزعاجٍ من عدمِ القدرةِ على تحقيقِ الكمال؟ في تأليفِ الحكومةِ وتوزيعِ الحقائبِ، في التعييناتِ وقانونِ الانتخابات، وفي معركةِ «فجرِ الجرودِ» بالذات، إلخ... وإذا قرَّر المحاسبةَ، يؤلِّف كلَّ يومٍ لَجنة تحقيقٍ مع مسؤولٍ حول قضيّةٍ ما.
ومن يدري كيف يَتشعَّب التحقيقُ؟ ومن يَدخُل على الخَطّ؟ ومن يُرجِعه إلى أزمنةٍ سابقةٍ حين كان التقصيرُ متألِّقاً، والتواطؤُ مشرِقاً، والخيانةُ مُزهرةً، والتمرّدُ مزدَهراً، والجُبن مشِعّاً. كلُّ الناسِ تَعرِف كلَّ الناس، وكلُّ الناسِ تَملِك أسرارَ بعضِها البعض.
أَفهَم حِرصَ رئيسِ الجمهورية على الحقيقةِ المُطلقة - رُغمَ انتفائِها عن عالمِنا النسبيّ - فالحقيقةُ تُحرِّر ومن دونِ أنْ تَطلبَ عيداً لها، لا أوّلاً ولا ثانيّاً ولا ثالثاً. وإذا صَحَّ أنه طَلبَ التحقيقَ بملابساتِ معاركِ عِرسال حسماً للجدل وبحثاً عن الحقيقةِ، كلِّ الحقيقة، بدونِ زيادةٍ ولا نُقصان، وبدون حِقدٍ ولا انتقام، فنوايا الآخرين عكسُ ذلك.
في 08 آب 2015، عشيّةَ التمديدِ لقائدِ الجيشِ العماد جان قهوجي، وكان التيّارُ الوطنيُّ الحرُّ ضِدّه - ولا يزال على ما يبدو - أَذكُر يافِطةً رُفعَت خلفَ مَنصّةِ التصاريحِ في حديقةِ منزلِ الجنرال في الرابية، كُتِب عليها: «تَعرِفون الحقيقةَ والحقيقةُ تحرِّركم».
إذا كانت الحقيقةُ تُحرِّر فالحِقدُ يَستعبِد. فما قاله على الإعلامِ وجَهاءٌ من التيّارِ الوطنيِّ الحر في الأيّامِ الأربعةِ الماضيةِ يُخالِف البحثَ عن الحقيقةِ المحرِّرة. لقد أجْرَوا التحقيقَ وأدلوا بإفاداتٍ ووزّعوا الاتّهاماتِ وأبرزوا الأدلّةَ الاعتباطيّةَ وتفوَّهوا بكلماتٍ جارحةٍ وأصدروا الأحكامَ بشكلٍ يؤثّر على التحقيقِ قبلَ أن يَبدأ ويُعرِّضُه للطعنِ سلفاً، لا بل يُلغي الحاجةَ إليه.
أَيظنُّ هؤلاء أنّهم في زمنِ محاكمِ التفتيش والمحاكمِ العُرفيّةِ والشعبيّةِ والثوريّة كما كانت حالُ إيران في السنةِ الأولى بعد ثورةِ الخُميني، والعراق بعدَ إسقاطِ صدّام حسين؟
هنا لبنان يا شباب، هنا «بيغ بِنْ» الكرامة والتوازن. إيّاكم والحربَ الأهليّة.
أكثرُ من سواه يُدرك الجنرال ميشال عون وَقْعَ «قذفِ الاتّهاماتِ الباطلة»، إذ كان هو أحدَ ضحاياها في ما مضى. أَلمْ تَظلُمْه المزاعمُ قائداً للجيشِ ورئيساً للحكومةِ الدستوريّةِ وزعيماً في المنفى؟ وأكثرُ من سواه يَعرِفُ أنّه لو فَتحت دولةُ ذاكَ الزمانِ السيّئِ تحقيقاً لكانت «برَّأت المُتَّهم وجرَّمت البريء». وقد حَكمت عليه غيابيّاً، وما عادَ إلى البلادِ في 07 أيار 2005 إلّا بعد أن تراجعَت الدولةُ عن الأحكام الصادرة بحقّه. تَغـيَّر الزمنُ لكنَّ الدولةَ لم تَتغيّر. فأركانُ ذاك الزمنِ هم أركانُ هذه الدولةِ.
التحقيقاتُ السياسيّةُ هي للعدالةِ ما هي الموسيقى العسكريِّةُ للموسيقى. الحقيقةُ هي سلامٌ ومحبّةٌ قبلَ أنْ تكونَ قضاءً وأحكاماً. والحقيقةُ هي: «دَعُوا أخصامي يأتون إليَّ»، ولا يُفترضُ أن يكونَ لرئيسِ الجُمهوريّةِ أخصامٌ سوى أعداءِ الوطنِ والسيادةِ والاستقلالِ والشرعيّة. ليست الحقيقةُ مدخلاً لتصفيةِ الحسابات، وأيُّ حسابات؟
عدا إقدامِ داعش على قتلِ العسكريّين، لا توجدُ فضيحةٌ سياسيةٌ ليجريَ تحقيقٌ بشأنِها. توجد مسؤوليّةٌ سياسيّةٌ يعود تقديرُ أحقيَّتَها للمسؤولِ في زمنٍ معينٍ وفي مكانٍ محدَّدٍ وفي ظرفٍ قائم. وبالتالي، مهما كانت نتائجُ القرارِ السياسيِّ، فهو لا يَستوجِب تحقيقاً بل تَقييماً، وإلا يَخشى أيُّ مسؤولٍ من أنْ يَتَّخذَ أيَّ قرارٍ خَشيةَ التعرّضِ بدورِه لاحقاً للمساءلةِ والتحقيق.
هناك من يحاول استغلالَ علاقتِه الحميمةِ بالعهدِ من أجلِ تحقيقِ الأهدافِ الأربعة الآتية على حساب الدولة:
1. تشويهُ صورةِ الجيشِ اللبنانيِّ وإضعافُ معنويّاتِ قادتِه وضبّاطِه وجنودِه لطمسِ انجازاتِه وانتصاراتِه، وعرقلةِ وصولِ المساعداتِ العسكريّة الأميركيّة، لاسيما بعدَ أن التفَّ الشعبُ كلُّه حولَه. لم يَنس اللبنانيّون المُخضرَمون التبعاتِ السلبيّةَ لمحاكمةِ ضبّاط «الشُعبة الثانية» في بدايةِ السبعينات، فانكَفأ الجيشُ وانفَلَتَت المنظّماتُ الفِلسطينيّةُ من دون رقيبٍ، فكانت حربُ السنتين (1975 / 1976). ولا يَخفى على أحدٍ، بأنَّ ما يجري هو رسالةٌ ضِمنيّةٌ إلى القيادةِ الحالية أَنْ احْتَرِزي.
2. التشكيكُ بوطنيّةِ الطائفةِ السُنيّةِ وتصويرُها جماعةً تُفضِّلُ نموَّ تنظيمَي جَبهةِ النُصرة وداعش على حسمِ الأمن في عِرسال، البلدة السنيّة، فيما الوقائعُ تَشهَد أنَّ السُنّةَ التحقوا بمشروعِ الدولةِ اللبنانيّةِ ووضعوا علاقاتِهم العربيّةَ والدوليّةَ في خِدمة لبنان. وأعني بالسُنّةِ القوى ذاتَ التمثيلِ الشعبيِّ مثلَ تيّارِ المستقبلِ (نُسخةُ 14 أذار 2005) وتمام سلام من أيّامِ صائب بك؛ ولا نُسخةَ لهما إلا واحدةً: «لبنانٌ واحدٌ لا لبنانان».
3. إبقاءُ الدولةِ اللبنانيّةِ أسيرةَ خِلافاتِها الداخليّةِ التافهةِ ورهينةَ الأحداثِ الصغيرة، فتبدو دولةً منقسِمةً على ذاتِها أُفقيّاً وعموديّاً وتفتقرُ إلى احترامِ المجتمعين العربيِّ والدوليّ. والخطيرُ أنَّ هذه الأمورَ تأتي - وليست مصادَفةً - عشيّةَ انطلاقِ رئيسِ الجمهوريّة في زيارات دوليّةٍ إلى نيويورك وفرنسا.
4. حَرْفُ الانتباهِ عن الحاضرِ وعن التسوياتِ المشبوهةِ التي رافقَت عمليّةَ تحريرِ الحدودِ الشرقيّةِ، وتوجيه الرأي العام نحو تحقيقٍ هو لزومُ ما لا يَلزَم، في وقتٍ توجد أولويّاتٌ أخرى.
فخامةَ الرئيس، أوقِف هذا المخطَّط، فليس في القبورِ عطور جميلةٌ نُعطِّر بها الانتصار، بل في مروجِ القلوبِ الكبيرة.